الكاتب الصحفى صالح شلبى يكتب : ترامب و جنون العظمة
كان يا مكان في عالم السياسة العجيب، ظهر رجلٌ بأسماء متعددة: الملياردير، رجل الأعمال، النجم التلفزيوني،صاحب التغريدات العشوائية والغريبة وأخيراً الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، دونالد جون ترامب.
ترامب كان دائمًا رجلاً يريد "كل شيء"، وكلما زاد ما يملكه، زاد ما يريد امتلاكه، لكن السؤال يبقى: ماذا يريد ترامب حقًا؟
مرحلة الطفولة:
ربما بدأ الأمر منذ كان طفلاً صغيراً يلعب بمكعبات الليجو في حضانة نيويورك الراقيةحيث كان يريد بناء برج من الليجو أعلى من كل الأبراج الأخرى، لأن الطفل الذي يمتلك أعلى برج هو "الأعظم"، أليس كذلك؟ وربما، في تلك اللحظة، أدرك أن الحياة بأسرها هي مجرد لعبة ليجو كبيرة وأنه، بالتأكيد، يستطيع بناء "أعظم" برج في العالم.
مرحلة رجل الأعمال:
وبمرور الزمن، تحول ترامب من اللعب بالمكعبات إلى اللعب بالعقارات والكازينوهات والفنادق، لم يكن يريد بناء عمارات فقط، بل أراد بناء "أعظم عمارة في العالم"، وعمارة ترامب تاور كانت في كل مكان، حتى في العواصم التي لا يحتاج فيها الناس إلى برج، كان يرى أنه يجب عليهم امتلاك برج يحمل اسمه لأنه، كما قال لنفسه، "من لا يملك برجاً بإسمي في مدينته، لم يرَ الحضارة الحقيقية".
لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، بل أراد أيضًا السيطرة على القمار، ففتح كازينوهات في أتلانتيك سيتي. ولكنه اكتشف، لسوء الحظ، أن القمار لعبة خطيرة، وليس كل من يدخلها يخرج منها رابحًا،وفي نهاية المطاف، خسرت كازينوهاته أموالاً، لكنه بالطبع لم يتحمل مسؤولية أي من هذه الأخطاء؛ ألقى اللوم على المنافسين، الحكومة، الطقس، وعلى الحظ السيء.
مرحلة النجم التلفزيوني:
حين أدرك ترامب أن الأعمال العقارية لا تكفي لتغذية طموحاته، قرر أن يصبح نجمًا تلفزيونيًا، وهنا ظهر برنامجه الشهير "المتدرب" الذي حوله من رجل أعمال إلى ظاهرة إعلامية، أراد أن يظهر للجميع أنه، بالإضافة إلى كونه خبيرًا في العقارات، يمكنه أيضًا تعليم الآخرين كيف يصبحون "عظماء"، كان يقف هناك خلف مكتبه الفخم، ينظر إلى المتسابقين ويقول ببرودة: "أنت مطرود!"، وكأن طرد الناس هو هواية سرية له.
البرنامج لم يكن مجرد فرصة لترامب لعرض أسلوبه في الإدارة، بل كان أيضًا فرصة ليزيد من غروره المتضخم بالفعل، تخيل، كم هو رائع أن تكون قادرًا على طرد الناس من حياتهم العملية بكلمة واحدة؟ لابد أن ترامب كان يتساءل في سرّه: "هل يمكنني طرد الكونجرس؟ أم ربما الأمم المتحدة؟"
مرحلة الرئاسة:
لكن التلفزيون لم يكن يكفي لترامب، بالطبع! كان يريد المزيد، المزيد من الشهرة، المزيد من القوة. وهنا ظهر الطموح الأعظم: رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. لماذا لا؟ إنه ترامب! من يستطيع أن يدير أمريكا أفضل منه؟ فهو يدير شركاته (أو على الأقل هذا ما يقول). وهكذا، أطلق ترامب حملته الانتخابية بناءً على فكرة بسيطة: "أمريكا عظيمة، لكنها يمكن أن تكون أعظم إذا أصبحت أنا الرئيس!"
وبعد حملة انتخابية مليئة بالتغريدات المثيرة والمواقف الغريبة، فاز ترامب بالرئاسة،بالطبع، لم يكن الفوز كافيًا لترامب، لم يكن يريد فقط أن يكون رئيسًا، بل أراد أن يكون "أعظم رئيس في تاريخ أمريكا"، أراد أن يبني جدارًا على الحدود، ويرسل تغريدات في الثانية الثالثة صباحًا، ويتشاجر مع الإعلاميين، كل ذلك لأن الرئيس العادي ببساطة لا يكفي لطموحاته.
مرحلة ما بعد الرئاسة:
وبعد انتهاء ولايته المثيرة للجدل، ماذا بقي لترامب؟ إنه يريد العودة، بالتأكيد! فمن يستطيع العيش بدون التغريدات اليومية، والعدسات التي تلاحقه في كل مكان، والمنافسين السياسيين الذين يحاولون الوقوف في طريقه؟ لقد جرب ترامب الحياة خارج البيت الأبيض واكتشف أنها ليست ممتعة كما كانت من قبل، يريد العودة ليصبح رئيسًا مرة أخرى، لأن ولاية واحدة لم تكن كافية لإشباع غروره.
غرور ترامب بعد عودته للرئاسة:
بعد أن نجح دونالد ترامب في العودة إلى سدة الرئاسة الأمريكية مرة أخرى، يبدو أن أمريكا كلها قد أصبحت مجرد خلفية ضخمة تُعرض فيها فصول جديدة من حياة هذا "العملاق" المغرور لا أحد يستطيع أن ينكر أن ترامب قد خطا خطوة أخرى نحو بناء إمبراطوريته الشخصية، وهذا لن يتوقف، لأنه ببساطة "أعظم من أي وقت مضى"! ومن هنا بدأ فصل جديد من سلسلة "ترامب: العودة للبيت الأبيض" بكل ما تحمله من غرور، إشاعات عن طائفة جديدة من المعجبين، وفيديوهات TikTok تطلق شعاراته الشهيرة.
العودة بنكهة البرج العجيب
كما هو معتاد، لم يمر فوزه الأخير بسهولة، ترامب لم يكتفِ بأن يكون رئيسًا فقط، بل قرر أن يعيد تقديم نفسه، وكأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت بحاجة إلى "تحديث رئيسي"، فكر في الأمر: هل تعتقد حقًا أن شخصًا مثل ترامب سيكون سعيدًا بكونه "فقط" رئيسًا؟ بالطبع لا! ترامب لا يريد أن يكون "رئيسًا عاديًا"، بل يريد أن يكون "رئيس القرن" – بل وربما "رئيس الأرض"!
منذ اللحظة التي نزل فيها ترامب من طائرته الخاصة، سارع إلى إخبار الجميع: "أنا لست فقط رئيسًا، أنا أعظم رئيس مر على هذه الأرض"، ومن ناحية أخرى، بدأ في العمل على خطط تجديد البيت الأبيض، حيث أكد أنه سيعيد تصميم المكتب البيضاوي ليصبح أكبر وأفخم. لماذا؟ لأن "الحجم مهم"، كما يعتقد ترامب. فالحجم يرمز إلى القوة، والقوة تعني النجاح، والنجاح يعني أن "الجميع يحبني" (كما قال ذات مرة في إحدى تغريداته).
تغريدات لا تتوقف: "أفضل رئيس على الإطلاق!"
لا أحد يستطيع أن ينافس ترامب في هذا المجال: التغريدات! في عالم لا يعترف بالهدوء السياسي أو الموضوعية، يتفوق ترامب على الجميع. فكلما عاد إلى منصبه، كانت تغريداته تصبح أكثر غرورًا و"عظمة"، لا شك أن السوشيال ميديا أصبحت منصته المفضلة لعرض أفكاره الاستراتيجية، مثل: "إذا كنت لا تؤمن بأنني أفضل رئيس في التاريخ، فقد فاتتك كل الدروس!".
جدران جديدة وأفكار أروع!
ترامب لا يتوقف عن طرح أفكار "إبداعية". فبخلاف جدار المكسيك الشهير، أعلن مؤخرًا أنه سيبدأ في بناء "جدار فضائي" لحماية الولايات المتحدة من الغزاة الفضائيين! لا أحد يعرف بالضبط كيف سيحدث ذلك، لكن ترامب دائمًا لديه خطط كبيرة، وكلما كانت الخطط أكبر، كلما كانت أكثر إثارة للإعجاب... أو على الأقل كما يحب أن يعتقد.
الكل في خدمتي: "أنا الأفضل في كل شيء!"
إذا كان هناك شيء يعشقه ترامب أكثر من أي شيء آخر، فهو الثناء والإعجاب. في مؤتمراته الصحفية، لا يسمح لأي صحفي بطرح سؤال دون أن يعترف أولاً بعبقريته الفائقة، في نظر ترامب، هو ليس فقط أفضل من سابقيه، بل هو الرئيس الذي سيخلد اسمه في الكتب المدرسية للأجيال القادمة (رغم أنه يفضل الكتب التي تكتبها شركاته الخاصة).
لكن لا داعي للقلق، فحتى لو فشل في بعض قراراته، سيتأكد من أن التاريخ سيتذكره كـ "أعظم قائد في كل العصور". لأنه ببساطة، إذا لم يكن ترامب هو الأفضل، فمن سيكون؟ بالتأكيد، ليس أحد من هؤلاء "الرؤساء السابقين المملين" الذين لم يمتلكوا حتى ذرة من "العبقرية" التي يمتلكها هو.
"عظمتي بلا حدود"
في النهاية، إذا كنت تشعر أن أمريكا تعيش في فيلم هوليوودي، فأنت لست مخطئًا،ترامب أصبح البطل الخارق الذي لا يمكن إيقافه - العودة إلى الرئاسة ليست مجرد عودة عادية، بل هي بداية حقبة جديدة مليئة بالغرور والدهشة ومحاولات السيطرة والبلطجة ، والاحتفالات المستمرة. فحتى بعد سنوات من حكمه، سيظل ترامب يُصر على أن أمريكا "أفضل من أي وقت مضى"، ويعلن بفخر: "لقد فعلناها مرة أخرى، ونحن نفعلها بشكل أفضل من الجميع".
ترامب يفتقر إلى الحكمة والعدل:
بينما قد يختلف الناس على سياسات ترامب وأسلوب إدارته، هناك شيء واحد يكاد يجتمع عليه الجميع: دونالد ترامب افتقر إلى الحكمة والعدل خلال فترة رئاسته.
لا ينكرأحد أن ترامب دخل إلى السياسة مثلما يدخل تاجر إلى سوق الأسهم؛ يعتمد على حركات سريعة وتوقعات مضطربة، بدون تخطيط طويل الأمد أو مراعاة لأثر القرارات على الآخرين إنه الرجل الذي حكم بفكر التاجر، وليس برؤية الزعيم.
فكرالتاجر لا يكفي لإدارة أمة
ترامب تعامل مع الرئاسة كما يتعامل مع صفقة تجارية، يقيم المكاسب والخسائر على المدى القصير فقط، فقد فكر في قرار بناء الجدار مع المكسيك: كان الحل الذي طرحه بسيطًا وسريعًا، كأنه حل سحري لمشكلة معقدة مثل الهجرة، لكن من منظور الحكمة السياسية، كان ذلك بعيدًا عن أن يكون قرارًا متزنًا- الحكمة تتطلب دراسة الأثر العميق والمتشابك لمثل هذه القرارات، وتفكيرًا استراتيجيًا شاملًا يأخذ في الحسبان النتائج على المدى الطويل، وهو ما لم يكن جزءًا من قاموس ترامب.
بينما كان يروج للجدار كرمز للقوة، كان يفشل في رؤية أن الجدران الحقيقية التي بناها كانت بين الأمريكيين أنفسهم، جدران من الانقسام والاستقطاب،والحكمة كما نعلم تتطلب إزالة الحواجز بين الناس، لا زيادتها.
العدل في ميزان ترامب
أما فيما يتعلق بالعدل، فقد كانت تلك القيمة غائبة في الكثيرمن قراراته وتصريحاته، ترامب يميل بشكل كبير إلى مكافأة أصدقائه وأنصاره، بينما يعامل منتقديه وكأنهم أعداء شخصيون.
في عالم ترامب، الولاء له كان أهم من الكفاءة أو العدالة، المناصب تمنح لأولئك الذين يثنون عليه، بينما يتم إقصاء أو السخرية من أي شخص يتجرأ على معارضته أو حتى نقده.
تخيل رئيسًا يرى أن الولاء الشخصي هو المقياس الأهم للنجاح السياسي، وأن تحقيق العدل يتم عبر حماية مصالحه الخاصة وأصدقائه المقربين فقط. هذا المبدأ يضعف المؤسسات الديمقراطية ويهدم العدالة من أساسها، حيث تصبح قرارات الرئيس مبنية على مشاعره الشخصية بدلاً من مبادئ الحكم الرشيد.
المواقف العشوائية والمتناقضة
كان ترامب يتخذ القرارات بناءً على مزاجه اليومي أو ما يراه مناسبًا لشعبيته، لا بناءً على الحكمة، أحيانًا، كان يبدو أنه يغير رأيه بناءً على تغريدة أو تعليق في الأخبار، هذه العشوائية في اتخاذ القرار لا تتناسب مع متطلبات القيادة الحكيمة.
الزعماء الحقيقيون يفكرون بعمق، ويستشيرون الخبراء، ويخططون على المدى البعيد، ولكن ترامب كان يتصرف كأنه مدير في برنامج تلفزيوني، حيث المهم هو الدراما وليس النتائج.
أحد الأمثلة البارزة هو انسحاب ترامب المفاجئ من الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية باريس للمناخ. هذا القرار لم يكن مدروسًا بما يكفي، بل كان مجرد استجابة للانتقادات الداخلية حول السياسة البيئية، قرارات مثل هذه تفتقر إلى الحكمة، حيث أهملت الجوانب طويلة الأجل وتأثيرها على مكانة أمريكا في الساحة الدولية.
الحكم بالقوة أم بالحكمة؟
الزعيم الحكيم يدرك أن القيادة ليست مجرد فرض للسلطة، بل هي القدرة على إقناع الناس بالاتباع من خلال العقل والتفاهم، ترامب، في المقابل، كان يعتمد على القوة والغضب، كان يستخدم تغريداته الحادة والانتقادات اللاذعة كأداة لإسكات منتقديه، مما يعكس عدم وجود حكمة في التعامل مع المعارضة- الزعيم الحقيقي يستمع ويحاور، بينما ترامب كان يميل إلى الصراخ وفرض رأيه بالقوة.
في النهاية، يمكننا أن نقول إن ترامب يريد كل شيء: المال، الشهرة، القوة، وحتى الاهتمام العالمي، إنه يريد أن يكون في كل مكان، أن يظهر على كل شاشة، أن يذكر اسمه في كل محادثة. وربما، في عمق قلبه (إذا كان له قلب فعلاً)، يريد شيئًا بسيطًا جدًا: أن يحبّه الجميع. لكن في الحقيقة، كلما زاد ما يريده ترامب، كلما زاد تعقيد الأمور من حوله، لأن ترامب هو الرجل الذي يريد الكثير... دائمًا وأبدًا.
فإذا كان هناك درس واحد نتعلمه من ترامب، فهو: أن تكون طموحًا رائع، لكن عندما يصبح طموحك هو أن تملك العالم بأسره، قد تجد نفسك تغرق في برج الليجو الذي بنيته بنفسك.